من باب الاحتياط – عن قراءة الأدب الإسرائيلي

الأربعاء 11 حزيران 2014

محمد عمر

كنت في عزلة، طويلة نسبيا، انقطعت فيها عن الناس، وعن التواصل الاجتماعي. أتاحت لي هذه العزلة أن أفعل ما أرغب، وأن أقرأ ما أريد. وقد قرأت كثيرا.

من أفضل ما قرأت خلال هذه العزلة الاختيارية، رواية الكاتب الاسرائيلي، عاموس عوز “قصة عن الحب والظلام”، وقد أحببتها، وأعيد قراءتها مرة ثانية الآن.

إعجابي بهذه الرواية دفعني لشراء رواية أخرى للكاتب هي “حنّة وميخائيل”، أو في ترجمات أخرى للعنوان “ميخائيلي”، وقد أعجبتني أيضا.

الرواية الأولى ترجمها عن العبرية مباشرة، جميل غنايم. أما رواية “ميخائيلي”، فيبدو أن مترجمها، رفعت فودة، نقلها عن الانكليزية عام 1991. الروايتان صدرتا لدى دار الجمل.

من باب الاحتياط

 هل يمكن أن يقرأ العربي أدباً “إسرائيلي”، أو “عبري” بـ”موضوعية” و”تجرد” ودون أحكام مسبقة، وأن يستمتع بالرواية كرواية، أسلوبا ولغة وحبكة وشخوص..الخ؟، وبدون خوف أو خشية، أو هواجس من نوع أن الكاتب يدس السم بالعسل، أو كما قالت إحدى قارئات الرواية بأنه يقدم للقارىء “تفاحة مسمومة”؟

من باب الاحتياط، وخشية من وقوع “المحظور”، بحثت، بعد قراءتي لروايتي عوز، عن كتب عربية تناولت بالبحث الأدب “العبري” أو “الاسرائيلي” أو “الصهيوني”، وأول ما خطر في بالي دراسة غسان كنفاني “في الأدب الصهيوني”، التي نشرها عام 1968، عندما كانت ترجمة الأعمال “العبرية” عملا مستهجنا إذ كان يدخل في باب “التطبيع”. وقد نشأت على هذا المفهوم، ونأيت بنفسي عن قراءة أي عمل “اسرائيلي”، وظللت متوجسا منها، اخاف على نفسي من الاحتكاك بها كي لا أقع في محظور “الإعجاب” بعمل لـ”العدو”، فيصير عندي “إنسانا”، وليس عدوا وحسب، فأصبح من “المطبعين” وتخفت همتي عن مقارعته.

وقد يزيد من “حيطة” القارىء العربي أو خشيته  من قراءة رواية عوز “قصة عن الحب والظلام”، مقدمة الترجمة العربية ، ذلك أنها تقول بأن هذه الترجمة مكرسة لذكرى الشاب جورج الذي قتل “خطأ” في عملية فدائية فلسطينية عام 2004، وعليه فإن الترجمة تهدف إلى خلق جسر للتواصل من خلال المعرفة، لكنها ليست معرفة “العدو” على رأي كنفاني إنما المعرفة  “لاقتلاع الشر فيما بيننا”.

المهم..

وجدت دراسة كنفاني على الإنترنت، حمّلتها على جهازي، وقرأتها على جلسة واحدة. ولم أكتف بها. فقد تذكرت، طالما أن عوز يتخذ من “القدس” مكانا لروايتيه، رواية “صديقي” العراقي علي بدر “مصابيح اورشليم، رواية عن ادوارد سعيد”، التي كنت قرأتها سابقا، فهرعت إليها. بدر أتى في أكثر من مرة على سيرة عاموس وعوز و”رؤيته” للقدس. وهو من عاير بدر، أي عاب عليه، أن العرب لم يكتبوا شيئاً عن القدس في مجال الرواية، فيما كتب “الاسرائيليون” أكثر من مائة رواية عنها. ما دفع بدر الى كتابة روايته هذه، بعد جهد بحثي طويل.

لا أدري إن كان علي بدر قد قرأ دراسة غسان كنفاني، لكنه يؤكد استنتاج غسان بأن “الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت ان استولدتها وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نظمت لتخدم هدفا واحدا”، ألا وهو، بالطبع، “اختراع الشعب اليهودي”، على حد تعبير شلومو ساند، في كتابه المهم.

الرواية هي أفضل حرب… طالما كلّ الحروب قد خرست وفشلت لماذا لا نجرّب الرواية… إدوارد سعيد كان أخطر على إسرائيل، أخطر من كلّ الحروب الفاشلة التي خضناها…

يرى بدر في روايته :”لأن إسرائيل نشأت من أسطور أدبية… من فكرة رومانتيكية… نشأت من رواية… وبالتالي يجب إعادة كتابتها عن طريق الأدب أيضاً… يجب تكذيبها عن طريق الرواية… الرواية هي أفضل حرب… طالما كلّ الحروب قد خرست وفشلت لماذا لا نجرّب الرواية… إدوارد سعيد كان أخطر على إسرائيل، أخطر من كلّ الحروب الفاشلة التي خضناها…

كان يعتقد أن أفضل ما يفعله هو إعادة سرد الأساطير لتكذيبها… لتدميرها… لكشف خداعها… لكشف زيفها…” (مصابيح أورشليم، ص218).

“ها هو إدوارد (سعيد) يخرج من أرضه ويدخل بدلا منه ابراهيم، ها هو إدوارد (سعيد) يبحث عن أرضه، وها هو عاموس عوز يسكنها ويكتب بها رواياته”. مصابيح ص 99

عرفت من كنفاني التالي: أن بحثه يشمل الأدب، وخاصة الرواية، الذي أنتجه يهود أو غير يهود، ويصب في خدمة اهداف “الصهيونية” كحركة سياسية، وليس كل ما نتج عن اليهود.

 من خلال دراسته للأدب الصهيوني رأى كنفاني أن “الصهيونية” كانت تنمو وتشتد دعواتها “للعزلة” والهجرة وإقامة الوطن القومي لليهود في مراحل الانفراج وليس في مراحل اضطهاد اليهود كما تدعي. وأنها حاربت كل دعوة، خاصة في الأدب، دعت للاندماج كما حصل مع موسى لندلسون الذي ترجم التواره للألمانية، واعتبرت ترجمته هذه من قبل “الصهاينة” محاولة للاندماج فتمت محاربته.

ويرى كنفاني أن الرواية الصهيونية “تخصم نصف الحقائق، ومن ناحية أخرى تضاعف نصفها الباقي”.

يستنتج كنفاني في دراسته وجود خط واحد مشترك في الرواية الاسرائيلية: أولا أن البطل مهاجر من اوروبا هارب من كابوس “مبالغ فيه”، ثانيا: يقع البطل او البطلة في غرام شخص غير يهودي، وطبعا غير عربي، وهذه حبكة يستغلها الروائي لشرح مفاهيم الصهيونية في عمله، وثالثا: العرب يبرزون فقط كأفراد لا قضية لهم وغالبا مأجورين أو “مضحوك” عليهم من قبل “الأفندية” وهم متخلفون معاقون يستغلون لمحاربة اليهود الذين حضروا لجعلهم حضاريين، رابعا: بسبب رفضه أو لتبرير عدم اندماجه في المجتمعات التي كان يعيش فيها، يحتاج الروائي الصهيوني إلى العودة وتكرار مسألة المذابح والاضطهاد، وخامسا: البطل اليهودي معصوم وجبار وقادر على حل أي مشكلة، اي لا انساني. نموذج من ورق مقوى. ولذلك تحفل الرواية الصهيونية بالتشدق العرقي.

أما رواية علي بدر، فهي تقوم أساسا على صورة اليهودي لذاته وللعرب من خلال الروايات  الاسرائيلية، مثل روايات عوز أو رواية “العاشق” ليهوشع …الخ، ولا يكاد تصور بدر لهذا الأمر يختلف عن أي دراسة تناولت موضوع صورة العربي في الأدب العبري، كما رأينا في دراسة كنفاني.

في مقدمة ترجمة رواية “حنّة وميخائيل” يتناول المترجم “اتجاهات سريعة في الأدب العبري”، ويقول أن من درسوا هذا الأدب قاموا بتقسيمه إلى مرحلتين، الاولى هو ما يطلق عليه جيل البلماخ، من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى خمسينياته. والمرحلة الثانية أي “الموجة الجديدة” بعد تأسيس اسرائيل.

ورغم أن المترجم يرفض هذا التقسيم “التعسفي” إلا انه يصل إلى خلاصة، قد لا تكون بعيدة عن خلاصة كنفاني إذ يقول أن: “الجيل الأسبق من الكتاب الاسرائيليين كانوا “يستعرضون”، بينما الجيل اللاحق كانوا “يخبرون”، عامو عوز واحد من جيل الموجة الجديدة.

عوز نفسه يقول عن روايته “حنّة وميخائيل”، كما يرد في المقدمة، التالي: “بينما الكتاب العبريون من الفترات السابقة حاولوا وصف أوج المعاناة وذروة القتال، وتصوير أبطال وهميين، هذه الرواية تتعامل عمدا مع المشاكل الحياتية اليومية للطبقة البرجوازية بانتقائها الغريزي الضيق الافق”.

أي أن عوز ، والحال هذه، تأتي أعماله لـ “أنسنة” المجتمع الاسرائيلي. التعامل مع الذات والمجتمع بصفته الانسانية، وبصفته مجتمع كأي مجتمع اخر، قد يكون له ميزات خاصة، لكنه في النهاية قد أصبح واقعا تاما كأي مجتمع انساني آخر له همومه ومشاكله وقضاياه ولم يعد، ولا يجوز التعامل معه كمجموعة مهاجرين أو أشخاص ذوي قدرات خارقة. فهذه أمور لا تستقيم لا مع الواقع ولا مع الرواية.

والحال هذه، فان روايتي عوز، وخلافا لمن وصفه بالكتاب العبريين السابقين، تتعامل مع “حالات فردية” إنسانية أسرية. رواية “قصة عن الحب والظلام”، هي سيرته الذاتية تقريبا، مع قليل أو ربما كثير من الخيال. أما رواية “حنّة وميخائيل” فهي رواية “أمه” التي انتحرت في طفولته بسبب الكآبة الشديدة، وأيضا مع الكثير من التخيل.

هناك رواية اسرائيلية، أو عبرية، سابقة و”تأسيسية” للصهيونية، كانت مهمتها “الاستعراضية”، ببطلها كلي القدرة، المعصوم الذي لا يهزم، التعبئة والدعاية الايديولوجية بهدف “اختراع الشعب اليهودي”

يعني، هناك رواية اسرائيلية، أو عبرية، سابقة و”تأسيسية” للصهيونية، كانت مهمتها “الاستعراضية”، ببطلها كلي القدرة، المعصوم الذي لا يهزم، التعبئة والدعاية الايديولوجية بهدف “اختراع الشعب اليهودي” وتأسيس وطنه القومي في فلسطين، ثم صارت،الآن إلى رواية “إخبارية”، على رأي مترجم “ميخائيلي”، ومهمة هذه الرواية، ببطلها الإنسان العادي، بتناقضاته النفسية وهمومه ومشاكله ونجاحاته واخفاقاته، الإخبار عن مجتمع لم يعد “مخترعا” بل صار واقعا تاما كاي مجتمع آخر له الحق في الوجود والحياة ولا يجب ان يهزم، أو يفنى، هذا إن كان قابلا للفناء.

مع ذلك، ومع أن مترجم “ميخائيلي” حاول أن يقول أن رواية عوز تختلف عن الرواية الإسرائيلية الاستعراضية – وكذلك قال عوز عن روايته – إلا ان روايتي عوز تحملان الكثير من سمات الرواية العبرية السابقة او “التأسيسية”:

في رواتي عوز، يختفي العربي تماما، ويحضر كأفراد فقط، في قصة عن الحب والظلام يحضر صاحب محل الألبسة الذي ينقذ عوز من الضياع والخوف في غرفة معزولة تحت الدرج أو يحضر في شخصية الطفل الذي شج رأسه عندما حاول أن يستعرض نفسه أمام شقيقة هذا الطفل أو عائلة الطفل “الغنية المثقفة” التي تتقبل الآخر.  وفي رواية “حنة وميخائيل” لا يحضر العربي إلا من خلال توأم “خليل وعزيز”، فقط، همج قتله يعودون للراوية “حنة” في أحلامها للاقتصاص من طردهم من منازلهم وأرضهم.

رغم أن رواية “قصة عن الحب والظلام” تجري بعض فصولها في زمن حرب 1948، فالحرب غير موجودة، أو هي تدور بعيدا، كما لو كانت بين جيوش أو فرقاء بعيدين ولا يصل منها سوى بعض التأثيرات. أما رواية “حنة وميخائيل”، فهي تجري بين 1948 و1956، العدوان الثلاثي على مصر وبعدها حرب الاستنزاف، وأيضا هي حرب بعيدة، على الحدود، كل تأثيرها جانبي لكنه مؤثر سلبا على حياة “اليهودي” العادي.

المجازر والقتل في الروايتين، وخاصة “قصة عن الحب والظلام”، حاضرة لكنها في الأغلب “المجازر التي ارتكبها” العرب ضد اليهود، مثل “بوغرام” ، او مذبحة اليهود عام 1920 وهكذا.

اما الاضطهاد وفكرة الاندماج والهجرة، التي نبه إليها كنفاني في دراسته كخط مشترك، فهي حاضرة بقوة في رواية “قصة عن الحب والظلام”، فالقصة تتناول سيرة عوز وسيرة أهله جميعا من إقامته في مدينة “روفنو” أو غيرها في أوكرانيا وتعرضهم لاضطهاد القوميين الروس ثم الشيوعيين الحمر ثم النازيين ثم المسلمين الأتراك إلى محاربة الدول العربية لاسرائيل.

ودائما هناك نوع من الفخر أو التشدق بالتفوق فجميع أهله مثقفون خارقون، أغلبهم ذو شهرة عالمية، وهذه جملة تتكرر كثيرا في الروايتين، مرات كثيرة بطريقة تهكمية لكنها لا تخفي ما يراد قوله من ان “اليهود خميرة العالم”.

أما “القدس”، وهي مكان الروايتين، لا يحبها الكاتب، ويرى أنها مدينة كئيبة، أو “هذه القدس اوهام .. ليست مدينة”، فهي مع ذلك “قدسي”، على حد تعبير “حنّة”، هي قدس غير قابلة للقسمة فهي حاضرة كمدينة يهودية خالصة.

بعيدا عن السياسة

بصراحة حاولت كثيرا التخلص من “أوهامي” السياسية ومخاوفي، وأحكامي المسبقة وأنا أقرأ روايتي عوز، لكن يبدو هذا الأمر صعبا جدا، خاصة وان الكاتب نفسه لم يستطع ان يصنع مسافة بينه وبين “الصهيونية”، بينه وبين إسرائيل واهلها الإسرائيليين، فكل ما فعله هو انه كتب كـ”صهيوني حزين” لان “شعبه” لا يرى للآن ذاته كما هي، ولا يرى حاجته للسلام والعيش المشترك، ولا يرى ان القضية برمتها هي “حق مقابل حق” و”عدالة مطلقة مقابل عدالة مطلقة”، كما يقول.

فكيف لي أن أتخلى أن توجسي؟

مع كل ذلك، فان غلبة السياسة على قراءتي لعملي عوز هذين لا يعني أن الروايتين ليستا على قيمة فنية عالية وعالية جدا، خاصة رواية “قصة عن الحب والظلام”، التي يبدو أنه أخذ عنوانها عن ثيمة أدب التنوير اليهودي أو “الهسكلاة”، حيث الصراع بين النور والظلام، وحيث ينتصر النور دائما، وإن كان عوز يميل للظلام لانه مليء بالحياة والدفء، كما تقول “حنّة”، والدة عوز في “ميخائيلي”.

وهذا المزاج “السوداوي”، أو تفضيل “الظلام”، ربما أتى لأن الروايتين في النهاية تتناولان حياة والدة عوز، التي عرفنا انها انتحرت وهو لا يزال طفلا، وربما هو كتبهما، وخاصة “قصة عن الحب والظلام” ليتصالح مع نفسه وليغفر لأمه، وهو فعل ذلك، ليس مع أمه وحدها بل أيضا مع بقية أهله والجيل الذي سبقه أو تربى في كنفه، فهو أخيرا توصل الى فهم هؤلاء وفهم الظروف والمعاناة التي عاشوها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية